نظر الولد الى الطريق الممتد امامه على مدى البصر من اول شارع الترعة المردومة من عند المحمودية و حتى مدى بصره ،الذي لم يكن ليكشف له عن شئ، اذ يتميز بالالتواء المتكرر - الشارع وليس بصره- فضلا عن سحابة الاتربة الغائمة فوق صفحة وجه مشوه تملأه البثور المصرية الخالصة من حيوانات و شوائب و عربات محطمة و اكوام قمامة و بعض الروث اضافة للبشر آتون غادون يسبون و يضحكون و يشتجرون بسبب و بلا سبب.
ينتهي الطريق في شارع ابوسليمان الرئيسي لدى مكان يشبه ساحة كبيرة و لكنها ساحة للبشر و البهائم و العربات يتخذ فيها كل سائر و سائق اتجاهه بلا اى تنظيم مروري من اي نوع، و ما يثير العجب سلاسة المرور في تلك الاماكن -و تلك الاماكن و حسب - و التي يكون فيها دوما بمنتهي النظام و الهدوء.
لم يكن الولد مهتما بآخر الطريق بالمرة ،ولكن بخرابة توازي محطة غبريال حيث ينتظر الحصول على العمل الموعود حسب ما قال له المعلم منص بعد ما لجأ اليه هربا من شغلانة الخردة التي اتعبته و جلبت له صفعات المعلم و مرمطة كرامته كل يوم.
كانت عملا مربحا لا شك و لكن كانت كمعظم الاعمال الربحانة محوطة بالنق و الكلام الكثير و بعض المحاذير البوليسية، و التي يتجنبها تجنب الجرب حيث لا يتحمل قفا من صول جربوع و لا سبة من امين اقذر منه لا يميزه الا السرقة الميري.
بدأ الطريق بقدمه اليمنى ،و دعا لنفسه بالتوفيق و تذكر امه الحاجة التي تدعو له من غلبها صباحا ومساءا - بعد انتهاء وصلة الدعاء عليه - ان لم يوافيها بالمعلوم اليومي الذي لا يقل عن خمسة عشر ملطوشا بكاملهم، و لا يبقى له الا خمسة بعد المزاج و الشاي و بعض السجائر الفرط.
الولد طويل فارع الطول دقيق العظام في جمال جسدي يليق بالرسم و النحت، و في ساقيه رشاقة و استقامة مع قدمين متناسقي الطول و العرض. ا ما يداه فمعروقة بعمل يدوي صقل كل عظمة و سلامية و نحت العروق في شكل خشن و يوحي بالرجولة و الحنو في آن واحد. اما وجهه فهو لوحة لمجموعة غير متناسقة من الملامح تجتمع في وجه يميل للتثلث يؤلف بينها و يجمعها في الخير فتشعر بالالفة لدى رؤيته و يكون انطباع الناظر هو انه ابن ناس صحيح.
تقدم اماما و سار متفاديا بقدر الامكان كافة المطبات و الحفر و النقر و غيرها من الوسخ و الركام و الحمير و الخرفان التي تتلاطم في عرض طريق واسع ضيقه غباء و قذارة قاطنيه و مستخدميه ،على حد سواء ، في مناخ من الفوضى الشاملة التي يحدها و يحكمها قانون الشارع و الذي ييسر السير فيه رغم كل ما سبق من الاهوال. استغرقته الرحلة ما يقرب من نصف الساعة قضاها في تأمل لماهية العمل القادم و اختلافه عما سبق و كيف يؤثر ذلك على مستقبله و فرصه في حياة افضل، و اذا به يفجأ قرب مقصده بمن يتشاجر بجانبه و يزعق بالقبيح من الحديث و الكلام، مع سباب فاحش يطول كل من يجاور او يناسب او يحتك بالمقصود به، و بينا هو يحاول الالتفاف حول الحريق و تجنب ان تطوله اوساخ المشتبكين، اذ طار احدهم و سقط فوقه تماما.. و لحقه كل المشتبكين ضربا و خبشا و صرعا حتى استطاع بعد لأي الهرب منهم و الخروج سالما في الجانب المقابل من الطريق.
استعاذ بالله و القى بسبتين مما تيسر بصوت خافت حتى لا يلفت نظرهم اليه، ثم القى نظرة سريعة على حاله.. لقد اتسخت ملابسه واصيب بخدش فوق الحاجب و لكن اقتصر المصاب على ذلك و الحمدلله.
حث الولد الخطى ليلحق بميعاد الشغلانة الجديدة و اخذ اتجاه شمال عند الجامع عند مكتبة المروة و سار في الطريق ا لموصل بين الشارع والمزلقان ، و كان الطريق مثل الامل المورق معبقا بروائح الفاكهة والخضار و بعض الخبيز كذلك .. و يلعب فيه بعض الاطفال بالعجل في حين يقذف الاخرون بالبلي و يتسلى غيرهم بالقاء السباب البذئ والضحك عليه ..شعر الفتى انه في شارعه و ارتخت اعصابه التي دمرها ما حدث آنفا. وصل الى مبتغاه اخيرا ورفع رأسه فوجد لمة على ناصية الطريق.. سأل احدهم ما الامر فقال "البقاء لله ، فلان مات فجأة، فتح الولد الورقة معه فوجد اسم فلان فيها .. رفع ناظريه الى السماء و فكر ان يسب حظه الفقر حيث لم ينبه من المشوار الا ما حدث من شجار و مصاريف الركوب.
و بينما يفكر بائسا في ذلك الحال، وضع احدهم ذراعه على كتفه.. المعلم منص.. قال له "احسنت اذ جئت في ميعادك و انت محظوظ ،فقد كان عملك معه و الان عملك مكانه و تلك حظوة عظيمة يا ولد.. امك داعيالك..قف على جنب لحد مااجي اشرح لك الشغلانة."
جلس على جنب و اشعل سيجارة بعيد عن اعين القائمين بنقل الميت، و فكر في تداعيات الحياة، تعلم في صغره ان يسعى و يجد و يمشى مع الرايجة و لا يرفس النعمة، يبدو ان كلام امه صحيح.. اقفل عيناه و ارتاح.
قال الحاج منص لعم الديب بنبرة المستعجب
- "تصدق كنا حنديه شغلانة منص و لكن لا حول و لا قوة الا بالله الواد قعد يشرب سيجارة رحت اقومه وجدته مات.. واخد سكينة رفيعة في جنبه ما حسش بيها و كمل المشوار و قضاه جه هنا. سبحان الله."
قال الحاج الديب
- "كله بأمره و كلنا لها اهو مات مبسوط و ما اقل من يموت و هو يظن نواله المراد.. كله فان يا عم منص".
No comments:
Post a Comment